مظاهرات 11 ديسمبر 1960 ملحمة شعب أراد الحياة

كان طريق الحرية الذي سلكه الجزائريون مضرجا بالدماء عاجّا بالأحداث الجسام والمآثر والمفاخر الجهادية التي رفعت هامات الجزائريين عاليا ومن بينها مظاهرات 11 ديسمبر 1960 التي كانت بحق صفحة فارقة في تاريخ ثورتنا المجيدة بل وأخر إسفين دق في نعش الاستعمار المتهالك. كانت بحق ملحمة يتعين لأجيالنا تدبرها وتمحيص مدلولاتها.
أما من حيث السياق فكانت هذه المظاهرات بمثابة الكابوس الذي قضّ مضاجع فرنسا الاستعمارية وقضى على آمال ديغول.لقد استهل هذا الأخير استراتيجيته سنة 1959 بشن عملية عسكرية ضخمة كبيرة العدد طويلة المدة في إطار ما عرف بمشروع شال الكبير الذي تلا فشل عملية التطهير الواسعة.تهدف هذه استراتيجية إلى خنق الثورة عبر تطويق الجزائر بالأسلاكالشائكة المكهربة والالغام والمراكز العسكرية المكثفة وإبادة وحدات جيش التحرير الوطني في الجبال والقضاء على صورة الثورة في المدن والقرى واستحداث إدارة وفية للجيش الفرنسي تحل محل جيش التحرير الوطني إلى غير ذلك. لكن الفشل كان حصاد هذا المشروع.
أما على المستوى السياسي البحت، فقد انتقل ديغول من مرحلة الجزائر الفرنسية واعتبارها جزء من الإقليم الفرنسي وانتظار أن يصوت من فيها بنعم أو لا على الدستورإلى التردد بعد خطابه الذي القاه بتاريخ 8 جانفي 1959 بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية وتأكيده على أن "لجزائر ستحظى بمكانة ممتازة داخل المجموعة الفرنسية ثم جاءت في النهاية فكرة تقرير المصير بعد يئس من اجتثاث جبهة التحرير تبين له فشل مشروع قسنطينة الاجتماعي وعجز الجيش الفرنسي عن تحقيق النصر فاعلن في 16 ديسمبر 1959 عن مبدا تقرير المصير من خلال التصويت عن الاستقلال والانفصال أو الاندماج مع فرنسا أو الفيدرالية مع فرنسا.
كان ديغول يسعى وراء وهم إيجاد "جزائر جزائرية تكون دولة لا مكان لجبهة التحرير الوطني فيها" مستغلابؤس وتعب السكان من الحرب ومحاولا خلق قوة ثالثة.لقد قام بإحداث مجالس محلية عبر انتخابات حصل أنصاره فيها على الأغلبية مع معارضتهم عن فكرة الاندماج كما سعى إلى بناء جيش جزائري من الخونة والعملاء. قدم ديغول الجزائر في سنة 1960 من أجل الدعاية لمشروعه فما كان لأنصار الجزائر الفرنسية الأوروبيين ومن والهم سوى أن قابلوه بالرفض والغضب والاضراب. وفي هذه الظروف هبّ الشعب الجزائري في 11 ديسمبر 1960 في مظاهرات معاكسة منافحا عن وطنه ذائدا عن سيادته. لقد كان يوما مشهودا ارتوت فيه الجزائر بدماء الشهداء وظهر فيه التنظيم المحكم للمظاهرات وارتفعت فيه راية الجزائر عالية. بعدها عاد ديغول الى فرنسا خائبا ومقرا بأن الأوضاع ليست كما كان يرى.
اتسمت تلك المظاهرات بالقوة والشدة والزخم وبها رفعت فيها الاعلام الجزائرية وتعالت فيها هتافات الشعب " تحيا الجزائر ويسقط الاستعمار""الوحدة الجزائرية الوطنية الترابية""الصحراء جزائرية""لا لتقسيم الجزائر". كانت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 صدمة مهولة بالنسبة لديغول وأنصار الجزائر الفرنسية الأوروبيين. كانت نهاية لأسطورة عودةالسلم في المدن الكبرى وتنفيذا واضحا لفكرة انتصار الجيوش الاستعمارية. لقد أدت الى ترجيح كفة الثورة بالأمم المتحدة بعدأن حصلت القضية الجزائري اثناء جلسة تقرير المصير بالجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20ديسمبر 1960على 63صوت ضد8 أصوات وازدادت قناعة شعوب العالم بعدالة القضية الجزائرية وأدركت فرنسا الاستعمارية أن أيامها في الجزائر أصبحت معدودة.
وباختصار أبرزت هذه المظاهرات الوحدة الوطنية الشعبية والترابية من خلال وحدة الصف الوطني وراء حزب جبهة التحرير الوطني وحكومته الناطقة باسمه وفيها تحررت الجماهير الجزائرية من عقدة الخوفوخاضت مواجهة مباشرة مع القواتالفرنسية وانتقلت المعارك الى المدن وخف الضغط على المجاهدين في الجبال والصحاري وتفتت القوات الفرنسية وفشلت ترسانتها الحربية.
هذا فيض من غيض بخصوص هذه الملحمة التي لا تنسى.ولذلك تحرص الجزائر الجديدة اليوم قيادة وشعبا على المحافظة على هذه المأثر وتثمينها والاستلهام منها. فلتعش الجزائر إلى الأبد سيدة منيعة.
السفير د. محمود براهم