سفارة الجزائر بالمنامة تحتفل بالذكرى الـــــ68 ليوم المجاهد (1955-1956-2024) وفاء، بناء واستمرار
مقدمة
يحيل يوم المجاهد في الجزائر إلى ذكرى مزدوجة تتمثل في هجمات 20 أغسطس 1955 وانعقاد مؤتمر الصومام في 20 أغسطس 1956وهما حدثان مفصليان بعد اندلاع الثورة الجزائرية المجيدة من حيث الآثار المعتبرة لها على مسار التحرر الوطني ذاك الذي عكس عبقرية الشعب الجزائري النضالية التي تجلّت في حكمةوعظمة قادة ثورته في قيادة هذا المسار نحو الهدف الأسمى المتمثل في طرد الاستعمار واستعادة السيادة الجزائرية المسلوبة بالقوة.
هجمات الشمال القسنطيني 20 أغسطس 1955
إن هجمات عشرين أغسطس 1955 حدث عظيم لا تكاد تنقضي عجائبه وكلما توغلنا في البحث فيه كلما اكتشفنا أمورا جديدة تعكس عبقرية صانعيه ورؤيتهم الإستراتيجية البعيدة.
فبعيد اندلاع ثورتنا المظفرة في الفاتح من نوفمبر 1954، صرح قادة الاستعمار أن "الجزائر ستبقى فرنسية إلى الأبد".كما تحاشت آلته الإعلاميةتسمية ما كان يجري فيهابالحرب وقدمته على كونه “مجرد عمليات فرض القانون" على من كانت تصفهم بالخارجين عن القانون.ورافق هذا التعتيم الإعلامي حملة قمعية شرسة ضد قادة ومناضلي الحركة الوطنية الذين امتلأت بهم السجون لا سيما وأن السواد الأعظم منهم التحق بالثورة وشكل عناصر قوية وفاعلة داخل هيكلتها بفضل تجربتهم النضالية الطويلة. ومع بداية سنة 1955، بدأ الاستعمار يعمل على نسف لحمة الشعب وثورته عبر خلق طريق ثالث يتمثل في مصالحة بينالعنصرين الفرنسي والجزائري المسلم في الجزائر تقود إلى وئام تام وتعايش بينيهما في ظل السيادة الفرنسية الجامعة وعزل دعاة الاستقلال ومقاتلي الحرية عن محيطهم الحيوي. كان ذلك مشروع في غاية الخطورة جندت له فرنسا بعض من عناصر النخبة الجزائرية المـُتفرنسة ودعمته ببرامج إصلاحية ذات بعد اجتماعي كتوفير بعض الخدمات الصحية والتعليمية. ودخل هذا البرنامج حيز التنفيذ تحت وصاية ورعاية خبراء الحرب النفسية الاستعماريين المتخصصين.
كان عراب هذه الاستراتيجية الجديدة التي أطلق عليها التكامل جاك سوستال، أحد أشد القادة الاستعماريين دهاء ومكرا وأكثرهم خبرة. ففضلا عن ضلوعه في الفلسفة وعلوم الحضارات، فإنه كان أيضا من أخطر رجالات الظل في فرنسا،فمساره متميز في مجال الكولسة والتجسس. كان سوستال يعتقد أن القضاء على الفقر أداة حاسمة لإنجاح سياسته في الجزائر. وكان يرى أن التكامل يختلف عن الاندماج وأنه يعطي المسلمين في الجزائر نفس الوضع الذي يتمتع به الفرنسيون. فالتكامل في نظره "يعترف بالخصوصية الجزائرية الثقافية والدينية واللغوية للجزائر لكن في إطار السيادة الفرنسية".
ومع تزايد حدّة النشاطات الثورية أعلن سوستال حالة الطوارئ في الجزائر في شهر أبريل 1955 في الأوراس وقطاع تبسة وبلاد القبائل ليعم الجزائر. لقد ازدادت الثورة لهيبا بل وتحركت دبلوماسيتها لحشد دعم الأحرار في العالم لا سيما خلال مؤتمر باندونغ الذي كانمقدمة لطرح المشكل الجزائري على المستوى الدولي. قد كدّس الاستعمار آلته العسكرية وجلب وحداته الطلائعية من الهند الصينية لاسيما أفواج المظليين الأجانب وفرقه من مختلف الأسلحة ووجهها نحو المنطقة القسنطينية. كما استدعى قواته الاحتياطية من فرنسا ورفع مستوى القمع وشدد الخناق على الولاية التاريخية الأولى مركز الثورة. كما أخلى القرى والمداشر وجمّع السكان في شبه معتقلات كبيرة بغرض فصل الثورة عن حاضنتها الشعبية وحرمانها من دعمها.
وفي تلك الأثناء عمل على بروز قوة ثالثة قوامها ما سمي آنذاك بذوي النوايا الحسنة.لقد زاد سواد هذه الشرذمة المغوية من المثقفين والسياسيين الأوروبيين الذين كانت مصالح الاستخبارات الفرنسية تؤطرهم ببعض من العناصر النخبوية من مسلمي الجزائر جلها ينحدر من بعض العائلات الميسورة ومن بعض مرضى القلوب من أشباه المثقفين الـمُفرنسين قلباوقالبا. لقد وكلت "لذوي لنوايا الحسنة" تجسيد مفهوم "الأخوة الفرنسية تحت الهوية الفرنسية الجامعة". لقد تمحورت خزعبلاتهم السمجة حول إبقاء الجزائر تحت سيادة فرنسا مقابل بعض فتات الإصلاحات لشراء ذمم الجزائريين. فكان لزاما على الثورة التحرك بحزم وقطع دابر هؤلاء المغويين وإفشال مخططاتهم العملية.
وبالفعل قررت قيادة الثورة في الشمال القسنطيني وعلى رأسها المرحوم زيغوت يوسف طيب الله ثراه إطلاق هجمات عامة شاملة تشرك فيها الجماهير الجزائرية المؤطرة بعناصر من جيش التحرير وتستهدفجميع المؤسسات الاستعمارية من ثكنات ومراكز أمنية ومستوطنات بدون استثناء، وبكل ما تملك الثورة من مقدرات. وبالفعل في 20 أغسطس انطلقت الجماهير في الشمال القسنطيني كالسيل العرمرم وجرفت كل ما وجدته أمامها من مراكز عسكرية واستيطانية للمستعمر. وكانت قيادة الثورة على وعي تام بأن ردة فعل المستعمر ستصل ذروة الهمجية ولكنها كانت تدرك أيضا ذلك المستوى من القمعوالوحشية سيزيد الجزائريينإصرارا على افتكاك حريتهم.
ومن جميع المناطق وصلت حشود هائلة من جيوش فرنسا إلى المنطقة وباشرت عمليات تقتيل ممنهج دون تمييز لا بين صغير ولا كبير، ولا عسكري ولا مدني، وسقط الآلاف شهداء. لقد شارك في المجزرة جميع الفرنسيين من جنود ومستوطنين وتكدست جثث الشهداء في الشوارع لدرجة لجأت معها قوات فرنسا إلى استعمال الجرافات الكبيرة لرفعها ونقلها ودفنها في حفر جماعية عميقة. لقد صار كل جزائري موجود في الطريق هدفا مباشرا لرصاص الجنود الفرنسيين وسكاكينيهم.
قد كانت تلك نقمة لكنها في باطنها نعمة. عندما أدرك الجزائريون في هذه المناطق أن لا عاصم لهم اليوم من رصاص المحتل سوى الجبال تأويهم هرعوا إليها زرفات ووحدانا. لكن بالجبال وجد هؤلاء سلاحا وذخيرة أقبلوا عليها بنهم لمحاربة قوات العدو المستعمر. لقد عجّت الجبال بالمجاهدين الجدد وخف الضغط عن الولاية الأولى وانخرم الحصار المضروب عليها. ولم يلبث أن انهار مشروع التكامل ومفهومه المحوري المتمثل في "الأخوة الفرنكو-جزائرية في إطار الهوية الفرنسية الجامعة" التي بشر بها سوستال.وبفشل هذا الأخير انتهت مهمته وسقط وسقطت معه عرّابه منداس فرانسوعاد سوستال إلى باريس يجر أذيال الخيبة والحسرة.
لقد بدأت مرحلة جديدة ازدادت فيها نار الثورة اشتعالا والكفاح المسلح شراسة، لقد بدأت تباشير الانعتاق الأولى في الظهور لتتواصل ملاحم الجهاد في الجزائر إلى غاية الوصول إلى اليوم الموعود.
مؤتمر الصومام 20 أوت 1956
كان انعقاد مؤتمر الصومام بمثابة النقلة النوعية في العمل المسلح الذي خاضه شعب الجزائر لنيل حريته. لقد مكّن هذا المؤتمر من تنظيم العمل المسلح سياسيا وعسكريا وكان بمثابة الردّ القوي على الترهات التي كانت ترى أن ثورة الجزائر لا يمكنها أن تؤسس لبروز دولة عصرية. والواقع انه مكن من خلق الأرضية الصلبة التي سيعاد على أساسها بعث وبناء الدولة الجزائرية من جديد بفضل ما تمخض عنه مجموعة قرارات حاسمة ذات بعد استراتيجي عميق. لقد مكن المؤتمر من إحداث قيادة أركان عامة لكل الولايات التاريخية المقاتلة وجمع شملها وزاد من لحمة جنود وقادة جيش التحرير. وبفضل مؤتمر الصومام ومقتضياته عرفت الحكومة الجزائرية المؤقتة النور. وهذه الأخيرة هي من فاوضت السلطات الفرنسية وأجبرتها على الانحناء أمام إرادة الشعب الجزائري في الاستقلال والحرية.
هذا فيض من غيض حول حدثين عظيمين تعجز الأقلام حتما الإحاطة بدقائقهما ووصف بطولة وتضحيات شعب لا نظير لها في تاريخ البشرية. وإذ تحي الجزائر الجديدة اليوم، شعبا ودولة وقيادة، هذه الذكرى المزدوجة، فإنها تؤكد وفائها لرسالة وتضحيات شهدائها وللمبادئ الانسانية العادلة المؤسسة لدولتها وتبني على منجزات هؤلاء وتستمر في اتباع نهجهم الخالد. وفاء وبناء واستمرار.
فلتبق الجزائر إلى الأبد قلعة حصينة من قلاع الحرية والسؤدد.
السفير د. محمود براهم