logo Ministry of Foreign Affairs
الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
سفارة الجزائر بالمنامة

مظاهرات 11 ديسمبر 1960 ملحمة شعب أراد الحياة

مظاهرات 11 ديسمبر 1960  ملحمة شعب أراد الحياة

  مظاهرات 11 ديسمبر 1960 

ملحمة شعب أراد الحياة

عندما اختار الجزائريون سلوك درب الحرية والطرْق على بابها، كانوا على يقين، كما قال أحمد شوقي  بأنّ:

للحرية الحمراء باب          بكلّ يد مضرجة يدقٌّ

فمسيرة الجزائريين نحو الانعتاق وإعادة تحقيق الذات كانت حافلة بالأحداث الجسام مضرجة بدماء الشهداء ومفعمة بالملاحم والمآثر والمفاخر الجهادية والتضحيات العظمية كللت كلها بنصر مؤيد رفع هامات الجزائريين عاليا. ومن بين المحطات الفاصلة في تاريخ ثورة التحرير الجزائرية الكبرى مظاهرات 11 ديسمبر 1960 كانت بحق أخر إسفين دٌقّ في نعش الاستعمار المتهالك. وكان لزاما على الجزائر المستقلة أن تحتفي بهذه الملحمة وعلى أجيالنا الوقوف عندها وتدبرها وتمحيص مدلولاتها واستخلاص دروسها.

لقد انتظمت هذه المظاهرات في سياق عسكري خاص تميز بتنفيذ الاستراتيجية التي أطلقها الجنرال ديغول سنة 1959 والتي تضمنت شنّ عملية عسكرية ضخمة كبيرة العدد طويلة المدة ضمن ما عرف بمشروع شال الكبير الذي تلا فشل عمليات التطهير الواسعة النطاق. لقد تمحورت هذه استراتيجية حول خنق الثورة عبر تطويق الجزائر بالأسلاك الشائكة المكهربة والالغام ومراكز المراقبة العسكرية المكثفة وإبادة وحدات جيش التحرير الوطني في الجبال والقضاء على صورة الثورة في المدن والقرى واستحداث إدارة وفية للجيش الفرنسي تحل محل جيش التحرير الوطني إلى غير ذلك. لكن الفشل كان حصاد هذا المشروع.

أما السياق السياسي الذي وقعت فيه هذه المظاهرات فتميز بالارتباك الكبير الذي وقع فيه الجنرال ديغول والذي تجلى في خطابه الساسي نفسه. لقد انتقل هذا الخطاب من التركيز على مرحلة "الجزائر الفرنسية التي تشكل جزء لا يتجزأ من الإقليم الفرنسي" إلى مرحلة "الدعوة إلى انتظار تصويت الجزائريين بنعم أو لا على الدستور". وبها شاب خطاب ديغول الذي القاه بتاريخ 8 جانفي 1959 بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية تردد كبير وصار يؤكد "على أن "لجزائر ستحظى بمكانة ممتازة داخل المجموعة الفرنسية" ثم ما لبث أنم طرح في نهاية المطاف فكرة تقرير المصير بعد يأسه من اجتثاث جبهة التحرير وعجز الجيش الفرنسي عن تحقيق النصر  ويقينه  من فشل مشروع قسنطينة الاجتماعي الرامي إلى شراء ذمم الجزائريين واختزال كفاحهم في مجرد طموح نحو تحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية، فأعلن في 16 ديسمبر 1959 عن مبدأ تقرير المصير من خلال التصويت على "الاستقلال والانفصال أو الاندماج مع فرنسا أو الفيدرالية مع فرنسا" والأمل يحدوه في كسب أغلبية جزائرية تدعم أفكاره الاستعمارية وتجسد اندماج الجزائر في فرنسا. فجاءت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 كالكابوس الذي قضّ مضاجع فرنسا الاستعمارية وقضى على آمال ديغول وأطماع المعمرين الأوروبيين في الاحتفاظ بالجزائر فرنسية إلى الأبد.

كان ديغول يلهث وراء وهم إيجاد "جزائر جزائرية ذات دولة لا مكان لجبهة التحرير الوطني فيها" مستغلا بؤس وتعب السكان من الحرب ومحاولا خلق قوة ثالثة. لقد قام بإحداث مجالس محلية عبر انتخابات حصل أنصاره فيها على الأغلبية كما سعى إلى بناء جيش جزائري من الخونة والعملاء. ومع ذلك رفض أنصار الجزائر الفرنسية من الأوروبيين ومن لفّ لفهم مشروعه وقابلوه بالرفض والغضب والاضراب في التاسع والعاشر من ديسمبر 1960عند ما زار الجزائر من أجل الدعاية له وترويجيه.

وفي هذه الظروف هبّ الشعب الجزائري في 11 ديسمبر 1960 في مظاهرات معاكسة منافحا عن وطنه ذائدا عن سيادته. لقد كان يوما مشهودا ارتوت فيه الجزائر بدماء الشهداء وظهر فيه التنظيم المحكم للمظاهرات وارتفعت فيه راية الجزائر عالية. بعدها عاد ديغول الى فرنسا خائبا ومقرا بأن الأوضاع ليست كما كان يرى.

 فمظاهرات 11 ديسمبر 1960 أبطلت تلك المناورات بصفة نهائية و"دحضت بكثافتها وعزيمة رجالها ونسائها كل نظريات أولئك الذين يعتقدون أو يزعمون بأن الشعب الجزائري وجبهة التحرير الوطني شيئان مختلفان". لقد أقامت الدليل للحكومة الفرنسية على عدم وجود أي قوة سياسية بالجزائر تتمتع بثقة الشعب عدا جبهة التحرير الوطني وكشفت للراي العام العالمي حقيقة ما يجري في الجزائر وبالتالي أرغمت ديغول على فتح مفاوضات مع ممثلي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.

 اتسمت تلك المظاهرات بالقوة والشدة والزخم وبها رفعت الاعلام الجزائرية وتعالت فيها هتافات الشعب " تحيا الجزائر ويسقط الاستعمار" "الوحدة الترابية الوطنية الجزائرية " "الصحراء جزائرية" "لا لتقسيم الجزائر". لقد كانت صدمة مهولة بالنسبة لديغول وأنصار الجزائر الفرنسية الأوروبيين أنهت أسطورة عودة السلم في المدن الكبرى وفندت تفنيدا واضحا فكرة انتصار الجيوش الاستعمارية. لقد أدت الى ترجيح كفة الثورة بالأمم المتحدة بعد أن حصلت القضية الجزائري اثناء جلسة تقرير المصير بالجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20 ديسمبر 1960 على 63 صوت ضد 8 أصوات وازدادت قناعة شعوب العالم بعدالة القضية الجزائرية وأدركت فرنسا الاستعمارية أن أيامها في الجزائر أصبحت معدودة.

وباختصار أبرزت هذه المظاهرات الوحدة الوطنية الشعبية والترابية من خلال وحدة الصف الوطني وراء حزب جبهة التحرير الوطني وحكومته الناطقة باسمه وفيها تحررت الجماهير الجزائرية من عقدة الخوف وخاضت مواجهة مباشرة مع القوات الفرنسية وانتقلت المعارك إلى المدن وخفّ الضغط على المجاهدين في الجبال والصحاري وتناثرت القوات الفرنسية وتمددت وذهب ريح ترسانتها الحربية.

 هذا فيض من غيض بخصوص هذه الملحمة التي لا تنسى. ولذلك تحرص الجزائر اليوم قيادة وشعبا على المحافظة على هذه المأثر وتثمينها والاستلهام منها. فلتعش الجزائر إلى الأبد سيدة منيعة.

 

السفير د. محمود براهم  

جميع الحقوق محفوظة - وزارة الشؤون الخارجية و الجالية الوطنية بالخارج - 2023